فصل: النَّوع الحادي عشر: المُعْضَل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


النَّوع الثَّامن‏:‏ المقطُوع

وجَمْعهُ‏:‏ المَقَاطعُ والمَقَاطيعُ، وهو الموقُوفُ على التَّابعي قولاً لهُ، أو فعلاً، واسْتَعملهُ الشَّافعي، ثمَّ الطَّبراني في المُنْقطع‏.‏

النَّوع الثَّامن‏:‏ المقطُوع‏.‏

وجمعهُ‏:‏ المقاطع والمقاطيع، وهو الموقوفُ على التَّابعي قولاً له، أو فعلا، واسْتعملهُ الشَّافعي، ثمَّ الطَّبراني في المُنْقطع الَّذي لم يَتَّصل إسْنَاده، وكذَا في كلام أبي بكر الحُمَيدي والدَّارقُطْني‏.‏

إلاَّ أنَّ الشَّافعي اسْتَعملَ ذلكَ قبل اسْتقرار الاصْطلاح، كمَا قال في بعض الأحَاديث‏:‏ حسنٌ، وهو على شَرْط الشَّيخين‏.‏

فائدة‏:‏

جمعَ أبو حفص بن بَدْر المَوْصلي كِتابًا سَمَّاه «مَعرفة الوقُوف على المَوْقُوف» أوردَ فيه ما أورده أصحاب «الموضُوعات» في مؤلفاتهم فيها، وهو صحيحٌ عن غير النَّبي صلى الله عليه وسلم، إمَّا عن صَحَابي أو تَابعي فمن بعدهُ‏.‏

وقال‏:‏ إنَّ إيرادهُ في «المَوْضُوعات» غلطٌ، فبينَ الموضُوع والموقُوف فرقٌ‏.‏

ومن مظانِّ الموقُوف والمقطُوع‏:‏ «مصنَّف» ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق، وتفاسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر وغيرهُم‏.‏

النَّوع التَّاسع‏:‏ المُرْسل

اتَّفقَ عُلماءُ الطَّوائف على أنَّ قول التَّابعي الكبير‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعلهُ، يُسمَّى مُرسلاً، فإن انقطعَ قبل التَّابعيِّ واحدٌ أو أكثرُ، قال الحاكم وغيرُهُ من المُحدِّثين‏:‏ لا يُسمَّى مُرسلاً، بل يَخْتصُّ المُرْسل بالتَّابعي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن سقطَ قبلهُ واحد فهو مُنْقطعٌ، وإن كان أكْثَر فمُعْضلٌ ومُنقطعٌ، والمَشْهورُ في الفِقْهِ والأصُول، أنَّ الكُل مُرْسل، وبه قطعَ الخَطِيب‏.‏

النَّوع التَّاسع‏:‏ المُرْسل

اتَّفقَ عُلماء الطَّوائف على أنَّ قول التَّابعي الكبير كعُبيد الله بن عَدي بن الخِيَار، وقَيْس بن أبي حازم، وسعيد بن المُسيب قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَذَا، أو فعله، يُسمَّى مُرسلاً، فإن انقطعَ قبل التَّابعي هكذا عبَّر ابن الصَّلاح تبعًا للحاكم، والصَّواب قبل الصَّحابي واحد أو أكثر، قال الحاكم وغيره من المُحدِّثين‏:‏ لا يُسمَّى مُرسلاً، بل يَخْتص المُرسل بالتَّابعي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن سقط قبله تقدَّم ما فيه واحد فهو منقطع، وإن كان السَّاقط أكثر من واحد فمُعضل ومُنقطعٌ أيضًا‏.‏

والمشهور في الفِقْهِ والأصُول، أنَّ الكل مُرْسل، وبه قطعَ الخطيب وقال‏:‏ إلاَّ أنَّ أكثر ما يُوصف بالإرْسَال، من حيث الاسْتعمال، ما رَواهُ التَّابعي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا اختلافٌ في الاصْطلاح والعِبَارة، وأمَّا قولُ الزُّهْري وغيرُه من صِغَار التَّابعين‏:‏ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالمَشْهُور عندَ من خصَّهُ بالتَّابعي أنَّه مُرْسلٌ كالكبير، وقيلَ‏:‏ ليسَ بِمُرسل، بَلْ مُنْقطع‏.‏

قال المُصَنِّف‏:‏ وهذا اختلافٌ في الاصْطلاح، والعِبَارة لا في المَعْنى، لأنَّ الكُل لا يُحتجُّ به عند هؤلاء ولا هؤلاء، والمُحدِّثون خَصُّوا اسم المُرسل بالأوَّل دونَ غيره، والفُقهاء والأصُوليون عمَّمُوا‏.‏

وأمَّا قول الزُّهْري وغيره من صِغَار التَّابعين‏:‏ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالمَشْهُور عند من خصَّه بالتَّابعي أنَّه مُرسل كالكبير، وقيل‏:‏ ليسَ بمُرسل، بل مُنقطع لأنَّ أكثر رواياتهم عن التابعي‏.‏

تنبيه‏:‏

يُرد على تخصيص المُرْسل بالتَّابعي، مَنْ سمعَ من النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو كافرٌ ثمَّ أسلم بعد موتهِ، فهو تابعيٌّ اتِّفاقًا، وحديثهُ ليسَ بِمُرسل، بل موصُول لا خِلاف في الاحْتجَاجِ به، كالتَّنوخي رَسُول هرقل- وفي رِوَاية قيصر- فقد أخرجَ حديثهُ الإمام أحمد وأبو يَعْلى في مُسنديهما، وسَاقاه مَسَاق الأحاديث المُسْندة‏.‏

ومن رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم غير مُميِّز، كمُحمَّد بن أبي بكر الصِّديق، فإنَّه صحابي، وحُكم رِوَايته حُكم المُرسل لا الموصُول، ولا يجيء فيه ما قيل في مَرَاسيل الصَّحابة، لأنَّ أكثر رِوَاية هذا وشبهه عن التَّابعي بخلاف الصَّحابي الَّذي أدركَ وسمعَ، فإنَّ احتمال رِوَايته عن التَّابعي بعيد جدًّا‏.‏

فائدة‏:‏

قال العِرَاقي‏:‏ قال ابن القطَّان‏:‏ إنَّ الإرْسَال رِوَاية الرَّجُل عمَّن لم يسمع منه، قال‏:‏ فعلَى هذا هو قولٌ رابع في حدِّ المُرْسل‏.‏

وإذا قالَ‏:‏ فلانٌ عن رَجُل، عن فُلان، فقال الحاكم‏:‏ مُنقطع ليسَ مُرْسلاً، وقال غيرهُ‏:‏ مُرْسل‏.‏

وإذا قال الرَّاوي في الإسْنَاد فُلان عن رجل أو شيخ عن فُلان، فقال الحاكم هو منقطع ليس مرسلاً، وقال غيره حكاهُ ابن الصَّلاح عن بعض كتب الأصول مرسل‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ وكل من القولين خلاف ما عليه الأكْثرون، فإنَّهم ذهبُوا إلى أنَّه مُتَّصل، في سَندهِ مجهولٌ، حكاهُ الرَّشيد العَطَّار واختاره العَلائي‏.‏

قال‏:‏ وما حكاهُ ابن الصَّلاح عن بعض كُتب الأصُول، أرادَ به البُرْهان لإمام الحرمين، فإنَّه ذكرَ ذلك فيه، وزادَ كتب النَّبي صلى الله عليه وسلم الَّتي لم يُسَمَّ حاملها، وزاد في «المَحْصُول» من سُمِّي باسْمٍ لا يُعرف به‏.‏

قال‏:‏ وعلى ذلك مَشَى أبو داود في كتاب «المَرَاسيل» فإنَّه يروي فيه ما أُبهم فيه الرَّجل‏.‏

قال‏:‏ بل زاد البيهقي على هذا في «سُننه» فجعل ما رواه التَّابعي عن رجل من الصحابة لم يُسمَّ مُرسلاً، وليس بجيِّد، اللهمَّ إلاَّ إن كانَ يُسميه مُرسلا، ويجعله حجَّة كمراسيل الصَّحابة، فهو قريب‏.‏

وقد روى البُخَاري عن الحُميدي قال‏:‏ إذا صحَّ الإسْنَاد عن الثِّقات إلى رجل من الصَّحابة فهو حُجَّة، كمراسيل الصَّحابة وإن لم يُسم ذلك الرَّجل‏.‏

وقال الأثْرم‏:‏ قلتُ لأحمد بن حنبل‏:‏ إذا قال رجلٌ من التَّابعين‏:‏ حدَّثني رجل من الصَّحابة ولم يُسمِّه، فالحديث صحيح‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وفرَّق الصَّيرفي من الشَّافعية بين أن يرويه التَّابعي عن الصَّحابي مُعنعنًا، أو مُصرَّحا بالسَّماع‏.‏

قال‏:‏ وهو حسنٌ متَّجه، وكلام من أطلق قبوله مَحْمولٌ على هذا التفصيل‏.‏ انتهى‏.‏

ثمَّ المُرسل حديثٌ ضعيفٌ عند جَمَاهير المُحدِّثين، والشَّافعي، وكثير من الفُقَهاء وأصْحَاب الأصُول، وقال مالك وأبُو حَنِيفة في طائفة‏:‏ صحيحٌ، فإن صحَّ مخرج المُرْسل بمجيئه من وجْهٍ آخر مُسْندًا أو مرسلاً، أرسلهُ من أخذَ عن غير رِجَال الأوَّل، كان صحيحًا‏.‏

ثمَّ المُرْسل حديثٌ ضعيفٌ لا يحتجُّ به عند جماهير المحدِّثين والشَّافعي كما حكاهُ عنهم مسلم في صدرِ «صحيحه» وابن عبد البر في «التَّمهيد» وحكاهُ الحاكم عن ابن المسيب ومالك وكثير من الفُقَهاء وأصحاب الأصول‏.‏

والنَّظر للجهل بحالِ المحذُوفِ، لأنَّه يُحتمل أن يَكُون غير صَحَابي، وإذا كان كذلك، فيُحْتمل أن يكون ضعيفًا، وإن اتَّفق أن يكون المُرْسل لا يُروى إلاَّ عن ثقة، فالتَّوثيق مع الإبْهام غير كاف، كما سيأتي، ولأنَّه إذا كان المَجْهول المُسَمَّى لا يُقبل، فالمجهول عينًا وحالاً أوْلَى‏.‏

وقال مالك في المشهور عنه وأبو حنيفة في طائفة منهم أحمد في المشهور عنه‏:‏ صحيح‏.‏

قال المُصنِّف في «شرح المُهذَّب»‏:‏ وقيَّد ابن عبد البر وغيره ذلك، بما إذا لم يكن مُرسله مِمَّن لا يحترز، ويُرسل عن غير الثِّقات، فإن كان، فلا خلاف في ردِّهِ‏.‏

وقال غيرهُ‏:‏ محل قبوله عند الحنفية، ما إذا كان مُرسله من أهل القُرون الثَّلاثة الفاضلة، فإن كان غيرها فلا، لحديث‏:‏ «ثمَّ يفشُوا الكذب»‏.‏ صحَّحه النَّسائي‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وأجمعَ التَّابعون بأسرهم على قَبُول المُرْسل، ولم يأت عنهم إنْكَاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المِئتين‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ كأنَّه- يعني أنَّ الشافعي- أوَّل من ردَّه، وبالغ بعضهم فقوَّاه على المُسْند، وقال‏:‏ من أسندَ فقد أحالكَ، ومن أرسلَ فقد تكفَّل لكَ‏.‏

فإن صحَّ مخرج المُرْسل، بمجيئه أو نحوه من وجهٍ آخر مُسندًا أو مرسلاً أرسله من أخذ العلم عن غير رجال المُرسل الأوَّل كان صحيحًا هكذا نصَّ عليه الشَّافعي في «الرِّسَالة» مُقيدًا له بمرسل كبار التَّابعين، ومن إذا سمَّى من أرسل عنهُ سمَّى ثقةً، وإذا شَاركهُ الحُفَّاظ المأمونون لم يُخَالفوه، وزادَ في الاعْتِضَاد أن يُوافق قول صحابي، أو يَفْتي أكثر العُلماء بمقتضاه، فإن فقدَ شرط ممَّا ذُكِرَ لم يُقبل مُرْسله، فإن وجدت قُبل‏.‏

ويتبيَّن بذلكَ صِحَّة المُرسل، وأنَّهما صحيحان، لو عارضهُما صحيحٌ من طريق رجَّحناهما عليه إذا تعذَّر الجَمْعُ‏.‏

ويتبيَّن بذلك صحَّة المرسل وما عضده وأنَّهما صحيحان لو عارضهما صحيح من طريق واحدة رجَّحناهما عليه بتعدُّد الطُّرق إذا تعذَّر الجمع بينهما‏.‏

فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ اشْتهرَ عن الشَّافعي أنَّه لا يحتج بالمُرسل، إلاَّ مراسيل سعيد بن المُسيب‏.‏

قال المُصنِّف في «شرح المهذب» وفي «الإرشاد»‏:‏ والإطْلاق في النَّفي والإثْبَات غلط، بل هو يُحتج بالمُرسل بالشُّروط المذكورة، ولا يُحتج بمراسيل سعيد إلاَّ بها أيضًا‏.‏

قال‏:‏ وأصلُ ذلك، أنَّ الشَّافعي قال في «مُختصر المُزَني»‏:‏ أخبرنا مالك، عن زيد بن أسْلم، عن سعيد بن المُسيب‏:‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع اللَّحم بالحيوان‏.‏

وعن ابن عبَّاس‏:‏ أنَّ جَزُورًا نُحرت على عهد أبي بكر، فجَاء رجل بِعَناقٍ فقال‏:‏ أعْطُوني بهذهِ العَنَاق، فقال أبو بَكْر‏:‏ لا يَصْلح هذا‏.‏

قال الشَّافعي‏:‏ وكان القاسم بن مُحمَّد، وسعيد بن المُسيب، وعُروة بن الزُّبير، وأبو بَكْر بن عبد الرَّحمن يُحرِّمون بيع اللَّحم بالحيوان‏.‏

قال‏:‏ وبهذا نأخذ، ولا نعلمُ أحدًا من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خالفَ أبا بكر الصِّديق‏.‏ وإرْسَال ابن المُسيب عندنا حسن‏.‏ انتهى‏.‏

فاختلف أصحابنا في معنى قوله‏:‏ وإرسال ابن المُسيب عندنا حسن، على وجهين، حكاهما الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازي في «اللمع» والخطيب البغدادي وغيرهما‏.‏

أحدهما‏:‏ معناهُ أنَّه حُجَّة عندهُ بخلاف غيرها من المَرَاسيل، قالُوا لأنَّها فُتِّشت فوُجِدت مُسْندة‏.‏

والثَّاني‏:‏ أنَّها ليست بحُجَّة عندهُ، بل هي كغيرها‏.‏ قالوا‏:‏ وإنَّما رجَّح الشَّافعي بمرسله، والتَّرجيح بالمُرسل جائزٌ‏.‏ قال الخطيب‏:‏ وهو الصواب‏.‏

والأوَّل ليس بشيء، لأنَّ في مَرَاسيله ما لم يُوجد مُسْندًا بحال من وجهٍ يصح، وكذا قال البَيْهقي‏.‏

قال‏:‏ وزِيَادةُ ابن المُسيب في هذا على غيره أنَّه أصح التَّابعين، إرْسَالا فيما زعمَ الحُفَّاظ‏.‏

قال المُصنِّف‏:‏ فهذان إمَامان حافظان فقيهان شَافعيان مُتَضلِّعَان من الحديث والفقه والأصول والخِبْرة التَّامة بنصُوص الشَّافعي ومعاني كلامه‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا قول القَفَّال‏:‏ مُرسل ابن المُسيب حُجَّة عندنَا، فهو مَحْمولٌ على التَّفصيل المُتقدم‏.‏

قال‏:‏ ولا يصح تَعَلُّق من قال‏:‏ إنَّه حُجَّة بقولهِ‏:‏ إرْسَاله حسن، لأنَّ الشَّافعي لم يعتمد عليه وحدهُ، بل لمَّا انْضَمَّ إليه من قول أبي بكر، ومن حضرهُ من الصَّحابة، وقول أئمة التَّابعين الأرْبعة الَّذين ذكرهم، وهم أرْبَعة من فُقَهاء المَدِينة السَّبعة‏.‏

وقد نقلَ ابن الصبَّاغ وغيره هذا الحُكم عن تمام السَّبعة، وهو مذهب مالك وغيره، فهذا عاضدٌ ثان للمُرْسل‏.‏ انتهى‏.‏

وقال البَلْقيني‏:‏ ذكر المَاوردي في «الحاوي» أنَّ الشَّافعي اختلف قوله في مراسيل سعيد، فكان في القديم‏:‏ يحتجُّ بها بانفرادها، لأنَّه لا يُرسل حديثًا إلاَّ يوجد مُسْندًا، ولأنَّه لا يروي إلاَّ ما سمعه من جماعة، أو من أكابر الصَّحابة، أو عضده قولهم، أو رآه مُنْتشرًا عندَ الكافَّة، أو وافقهُ فعلُ أهل العَصْرِ، وأيضًا فإنَّ مراسيلهُ سُبرت فكانت مَأْخُوذة عن أبي هُريرة، لِمَا بينهما من المُوَاصلة والصهارة، فصار إرْسَاله كإسْناده عنه، ومذهب الشَّافعي في الجديد‏:‏ أنَّه كغيره‏.‏

ثمَّ هذا الحديث الذي أوردهُ الشَّافعي من مراسيل سعيد يَصُلح مثالاً لأقْسَام المُرْسل المقبول، فإنَّه عضده قول صحابي، وأفْتَى أكثر أهل العلم بمقتضَاهُ، وله شَاهدٌ مُرْسل آخر، أرسله من أخذ العِلْم عن غير رِجَال الأوَّل، وشاهدٌ آخر مُسْند، فروى البَيْهقي في «المَدْخل» من طريق الشَّافعي عن مسلم بن خالد، عن ابن جُريج، عن القاسم بن أبي بَزَّة قال‏:‏ قدمتُ المَدِينة فوجدتُ جَزُورًا قد جُزِرت، فجُزِّئت أربعة أجْزَاء، كل جُزء منها بِعَناقٍ، فأردتُ أن أبْتَاع منها جُزْءًا، فقال لي رجل من أهل المَدِينة‏:‏ إنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُباع حي بميت‏.‏ فسألتُ عن ذلك الرَّجُل فأُخبرتُ عنهُ خيرًا‏.‏ قال البَيْهقي‏:‏ فهذا حديث أرْسَلهُ سعيد بن المُسيب، ورواه القَاسم بن أبي بَزَّة عن رَجُل من أهل المَدِينة مُرْسلا، والظَّاهر أنَّه غير سعيد، فإنَّه أشهر من أن لا يعرفه القاسم بن أبي بَزَّة المَكِّي، حتَّى يسأل عنه‏.‏

قال‏:‏ وقد رويناهُ من حديث الحَسنِ، عن سَمُرة بن جُنْدب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، إلاَّ أنَّ الحُفَّاظ اختلفُوا في سَمَاع الحسن من سَمُرة في غير حديث العَقِيقة، فمنهم من أثبتهُ، فيَكُون مِثَالاً للفصل الأوَّل، يعني ما له شاهد مُسند، ومنهم من لم يُثبته، فيكون أيضًا مُرسلا، انضمَّ إلى مرسل سعيد‏.‏ انتهى‏.‏

الثَّانية‏:‏ صوَّر الرَّازي وغيره من أهل الأصول المسند العاضد، بأن لا يكون مُنتهض الإسناد، ليَكُون الاحتجاج بالمجموع، وإلاَّ فالاحتجاجُ حينئذ بالمُسند فقط، وليسَ بمخصوص بذلك كما تقدَّم الإشارة إليه في كلام المُصنِّف‏.‏

الثَّالثة‏:‏ زاد الأصُوليون في الاعتضاد أن يُوافقه قِيَاسٌ، أو انتشار من غير إنكار، أو عمل أهل العصر به، وتقدَّم في كلام الماوردي ذكرُ الصُّورتين الأخيرتين، والظَّاهر أنَّهما داخلتان في قول الشَّافعي، وأفتى أكثر أهل العلم بمُقتضاهُ‏.‏

الرَّابعة‏:‏ قال القاضي أبو بكر‏:‏ لا أقبل المُرْسل ولا في الأماكن التي قَبِلها الشَّافعي حَسْمًا للباب، بل ولا مرسل الصَّحابي، إذا احتمل سماعهُ من تابعي‏.‏

قال‏:‏ والشَّافعي لا يوجب الاحتجاج به في هذه الأماكن، بل يستحبه كما قال‏:‏ أستحب قبوله، ولا أستطيع أن أقول‏:‏ الحُجَّة تثبت به ثبوتها بالمُتَّصل‏.‏

وقال غيره‏:‏ فائدة ذلك أنَّه لو عارضهُ مُتَّصل قدم عليه، ولو كان حُجَّة مُطْلقًا تعارضا، لكن قال البيهقي‏:‏ مُراد الشَّافعي بقوله‏:‏ أستحبُّ، أختار، وكذا قال المُصنِّف في «شرح المُهذَّب»‏.‏

الخامسة‏:‏ إن لم يكن في الباب دليلٌ سوى المُرسل، فثلاثة أقوال للشَّافعي، ثالثها وهو الأظهر، يجب الانكفاف لأجله‏.‏

السَّادس‏:‏ تلخَّص في الاحتجاج بالمُرْسل عشرة أقوال‏:‏

حُجَّة مُطلقًا‏.‏

لا يحتجُّ به مُطلقًا‏.‏

يُحتجُّ به إن أرسله أهل القُرون الثلاثة‏.‏

يحتجُّ به إن لم يُرو إلاَّ عن عدل‏.‏

يحتجُّ به إن أرسله سعيد فقط‏.‏

يحتجُّ به إن اعْتُضد‏.‏

يحتجُّ به إن لم يكن في الباب سواه، هو أقوى من المُسند‏.‏

يحتجُّ به ندبا لا وجوبا‏.‏

يحتجُّ به إن أرسله صحابي‏.‏

السَّابعة‏:‏ تقدَّم في قول ابن جرير‏:‏ إنَّ التَّابعين أجمعوا على قَبُول المُرْسل، وإنَّ الشَّافعي أوَّل من أباه، وقد تنبَّه البَيْهقي لذلك فقال في «المدخل»‏:‏ باب ما يُستدل به على ضَعْف المَرَاسيل بعد تغير النَّاس وظُهور الكذب والبِدَع، وأورد فيه ما أخرجه مُسلم عن ابن سيرين قال‏:‏ لقد أتَى على النَّاس زمانٌ وما يُسأل عن إسناد حديث، فلمَّا وقعت الفتنة سُئل عن إسناد الحديث، فيُنظر من كان من أهل السُّنة يؤخذ من حديثه، ومن كان من أهل البِدَعِ تُرك حديثه‏.‏

الثَّامنة‏:‏ قال الحاكم في «علوم الحديث»‏:‏ أكثر ما تُروى المَرَاسيل من أهل المَدِينة عن ابن المُسيب، ومن أهل مَكَّة عن عَطَاء بن أبي ربَّاح، ومن أهل البَصْرة عن الحسن البَصْري، ومن أهل الكُوفة عن إبراهيم بن يزيد النَّخعي، ومن أهل مِصْر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشَّام عن مَكْحول‏.‏

قال‏:‏ وأصحها كما قال ابن معين‏:‏ مَراسيل ابن المُسيب، لأنَّه من أولاد الصَّحابة، وأدركَ العَشَرة، وفقيه أهل الحِجَاز ومُفتيهم وأوَّل الفُقهاء السَّبعة الذين يعتد مالك بإجْمَاعهم، كإجْمَاع كافة النَّاس، وقد تأمَّل الأئمة المُتقدِّمون مَرَاسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشَّرائط لم تُوجد في مراسيل غيره‏.‏

قال‏:‏ والدَّليل على عدم الاحتجاج بالمُرْسل غير المَسْمُوع من الكِتَاب، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ ومن السُّنة حديث‏:‏ «تَسْمعُون ويُسْمعُ منكُم، ويُسْمعُ مِمَّن يَسْمعُ منكُم»‏.‏

التَّاسعة‏:‏ تكلَّم الحاكم على مَرَاسيل سعيد فقط، دُون سائر من ذُكِرَ معهُ، ونحنُ نَذْكر ذلك‏:‏

فمَرَاسيل عَطَاء، قال ابن المَدِيني‏:‏ كان عطاء يأخذ عن كلِّ ضَرْبِ، مرسلات مُجَاهد أحب إلي من مُرْسلاته بكثير‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ مُرْسلات سعيد بن المُسيِّب أصح المُرْسلات، ومُرسلات إبراهيم النَّخعي لا بأس بها، وليسَ في المُرسلات أضعف من مُرسلات الحسن وعَطَاء بن أبي رباح، فإنَّهما كانَا يأخذان عن كلِّ واحد، ومَرَاسيل الحسن تقدَّم القول فيها عن أحمد‏.‏

وقال ابن المَدِيني‏:‏ مُرْسلات الحسن البصري الَّتي رَوَاها عنه الثِّقات صِحَاحٌ، ما أقلَّ ما يسقط منها‏.‏

وقال أبو زُرعة‏:‏ كُل شيء قال الحسن‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وجدتُ له أصلاً ثابتًا، ما خلا أربعة أحاديث‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القَطَّان‏:‏ ما قال الحسن في حديثه‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ وجدنا له أصلاً، إلاَّ حديثًا أو حديثين‏.‏

قال شيخُ الإسْلام‏:‏ ولعلَّهُ أراد ما جزمَ به الحسن‏.‏

وقال غيرهُ‏:‏ قال رجل للحسن‏:‏ يا أبا سعيد، إنَّك تُحدِّثنا فتقُول‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كنتَ تُسندهُ لنا إلى من حدَّثك، فقال الحسن‏:‏ أيُّها الرَّجُل ما كذبنا ولا كُذِّبنا، ولقد غزونَا غزوة إلى خُرَاسان، ومعنا فيها ثلاث مئة من أصْحَاب محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال يُونس بن عُبيد‏:‏ سألتُ الحسن قلتُ‏:‏ يا أبا سعيد، إنَّك تقول‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّكَ لم تُدْركهُ‏؟‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مِنِّي ما أخبرتكَ، إنِّي في زَمَانٍ كما ترى، وكان في زمن الحجَّاج كل شيء سمعتني أقوله‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن عليِّ بن أبي طالب، غير أنِّي في زمان لا أستطيع أن أذْكُرَ عليًّا‏.‏

وقال مُحمَّد بن سعد‏:‏ كل ما أُسِندَ من حديثه، أو رَوَى عمَّن سمع منه، فهو حسن حُجَّة، وما أرسل من الحديث فليس بحجَّة‏.‏

وقال العِرَاقي‏:‏ مَرَاسيل الحسن عندهم شبه الرِّيح‏.‏

وأمَّا مَرَاسيل النَّخعي فقال ابن معين‏:‏ مَرَاسيل إبراهيم أحب إليَّ من مَرَاسيل الشَّعبي‏.‏

وعنهُ أيضًا‏:‏ أعجب إلىَّ من مُرْسلات سالم بن عبد الله، والقاسم، وسعيد بن المُسيب‏.‏

وقال أحمد‏:‏ لا بأس بها‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ قلتُ لإبراهيم النَّخعي‏:‏ أسْنِد لي عن ابن مَسْعُود، فقال‏:‏ إذا حدَّثتكُم عن رجل عن عبد الله، فهو الَّذي سمعتُ، وإذا قُلتُ‏:‏ قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله‏.‏

العاشرة‏:‏ في مراسيل أُخر ذكرها التِّرمذي في «جامعه» وابن أبي حاتم وغيرهما‏.‏

مراسيل الزُّهْري‏:‏ قال ابن معين ويحيى بن سعيد القَطَّان‏:‏ ليس بشيء، وكذا قال الشَّافعي، قال‏:‏ لأنَّا نجدهُ يروي عن سُليمان بن أرقم‏.‏

وروى البَيْهقي عن يحيى بن سعيد قال‏:‏ مُرسل الزُّهْري شَرٌّ من مُرسل غيره، لأنَّه حافظ، وكلَّما قدر أن يُسمِّي سَمَّى، وإنَّما يترك من لا يستحب أن يُسميه، وكان يحيى بن سعيد لا يَرَى إرْسَال قتادة شيئا ويقول‏:‏ هو بمنزلة الرِّيح‏.‏

وقال يحيى بن سعيد‏:‏ مُرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مُرسلات عَطَاء‏.‏ قيل‏:‏ فمُرسلات مُجَاهد أحب إليكَ، أو مُرْسلات طاووس‏؟‏ قال‏:‏ ما أقْرَبهما‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ مالك عن سعيد بن المُسيب أحب إليَّ من سُفيان عن إبراهيم، وكُلٌّ ضعيف‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ سُفيان عن إبراهيم شبه لا شيء، لأنَّه لو كان فيه إسناد صاح‏.‏

وقال‏:‏ مُرْسلات أبي إسْحَاق الهَمَداني، والأعْمَش، والتَّيمي، ويحيى بن أبي كثير شبه لا شيء، ومُرسلات إسْمَاعيل بن أبي خالد ليسَ بشيء ومُرْسلات عَمرو بن دينار أحب إليَّ، ومُرْسلات مُعاوية بن قُرَّة أحب إليَّ من مُرْسلات زيد بن أسلم، ومُرْسلات ابن عُيينة شِبْه الرِّيح، وسُفيان بن سعيد، ومُرْسلات مالك بن أنس أحب إليَّ، وليسَ في القَوْمِ أصح حديثًا منهُ‏.‏

الحاديةُ عَشْرة‏:‏ وقعَ في «صحيح» مسلم أحاديث مُرسلة، فانْتُقدت عليه، وفيها ما وقع الإرْسَالُ في بعضهِ، فأمَّا هذا النَّوع فعُذْره فيه أنَّه يُوردهُ مُحتجًّا بالمُسْند منه، لا بالمُرْسل، ولم يقتصر عليه للخلاف تقطيع في الحديث، على أنَّ المُرْسل منه قد تبيَّن اتِّصاله من وجه آخر، كقوله في كِتَاب البيوع‏:‏ حدَّثني مُحمَّد بن رافع، حدَّثنا جُجَين، حدَّثنا اللَّيث، عن عُقيل، عن ابن شِهَاب، عن سعيد بن المُسيب‏:‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المُزَابنة‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال‏:‏ وأخْبَرني سالم بن عبد الله، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تَبْتَاعُوا الثَّمر حتَّى يبدُو صلاحهُ، ولا تَبْتاعُوا الثَّمر بالتمر»‏.‏

وقال سالم‏:‏ أخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنَّه رخَّصَ في العَرِيَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وحديث سعيد وصلهُ من حديث سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هُرَيرة، ومن حديث سعيد بن مينا وأبي الزُّبير عن جابر‏.‏

وأخرجه هو والبُخَاري من حديث عَطَاء عن جابر‏.‏

وحديث سالم وصلهُ من حديث الزُّهْري عن سالم عن أبيه‏.‏

وأخرج في الأضَاحي حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بَكْر، عن عبد الله بن واقد‏:‏ نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ لُحُوم الضَّحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر‏:‏ فذكرتُ ذلك لِعَمْرةَ، فقالت‏:‏ صدق، سمعتُ عائشة تقول الحديث‏.‏

فالأول مُرْسل، والآخر مُسْند وبه احتجَّ، وقد وصلَ الأوَّل من حديث ابن عُمر‏.‏

وفيه من هذا النَّمط نحو عَشْرة أحاديث، والحكمة في إيراد ما أوردهُ مُرْسلاً بعد إيراده مُتَّصلاً، إفادة الاختلاف الواقع فيه‏.‏

ومِمَّا أوردهُ مُرْسلاً، ولم يصله في موضع آخر‏:‏ حديث أبي العلاء بن الشِّخير‏:‏ كان حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ بعضه بعضًا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ لم يُرو موصولاً عن الصَّحابة من وجه يصح‏.‏

الثَّانية عشرة‏:‏ صنَّف في المَرَاسيل أبو داود، ثمَّ أبو حاتم، ثمَّ الحافظ أبو سَعيد العَلائي من المُتأخِّرين‏.‏

هذا كُلُّه في غير مُرْسل الصَّحابي، أمَّا مُرْسلهُ فمَحْكومٌ بصحَّتهِ على المَذْهب الصَّحيح، وقيلَ‏:‏ إنَّه كَمُرسل غَيْرهِ، إلاَّ أنَّ يُبيِّن الرِّواية عن صحابي‏.‏

هذا كله في غير مرسل الصَّحابي، أمَّا مرسله كإخباره عن شيء فعلهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم أو نحوهُ مِمَّا يعلم أنَّه لم يحضرهُ لِصَغر سِنِّه أو تأخَّر إسْلامه فمحكومٌ بصحَّته على المَذْهب الصَّحيح الذي قطعَ به الجُمهور من أصحابنَا وغيرهم، وأطبقَ عليه المحدِّثُون المُشْترطون للصَّحيح، القائلون بضعف المُرْسل، وفي «الصَّحيحين» من ذلك ما لا يُحْصَى، لأنَّ أكثر رواياتهم عن الصَّحابة وكلهم عُدول، ورِوَاياتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها بُينُوهَا، بل أكثر ما رواه الصَّحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسْرَائيلياتٌ، أو حِكَاياتٌ، أو موقوفات‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّه كمُرسل غيره لا يحتجُّ به إلاَّ أن يُبيِّن الرِّواية عن صحابي زاده المصنِّف على ابن الصَّلاح، وحكاهُ في «شرح المهذب» عن أبي إسحاق الإسفرايني وقال‏:‏ الصَّواب الأول‏.‏

النَّوع العاشر‏:‏ المُنْقطع

الصَّحيح الَّذي ذهبَ إليه الفُقَهاءُ، والخَطيبُ، وابنُ عبد البرِّ، وغيرُهم من المحدَّثين‏:‏ أنَّ المُنْقطع ما لم يَتَّصل إسْنَاده، على أي وجه كانَ انقطاعهُ، وأكْثَر ما يُسْتعمل في رِوَاية من دُونَ التَّابعي عن الصَّحابي، كمالك عن ابن عُمر، وقيلَ‏:‏ هُو ما اختلَّ منهُ رَجُلٌ قبل التَّابعي، مَحْذُوفًا كان أو مُبْهمًا، كرَجُل، وقيل‏:‏ هو ما رُوي عن تابعي، أو من دُونهُ، قولاً لهُ، أو فِعْلاً، وهذا غريبٌ ضعيفٌ‏.‏

النَّوع العَاشر‏:‏ المُنقطع، الصَّحيح الَّذي ذهب إليه الفُقهاء، والخطيب، وابن عبد البر، وغيرهم من المُحدِّثين‏:‏ أنَّ المُنقطع ما لم يَتَّصل إسنادهُ على أي وجه كان انقطاعهُ سَوَاء كانَ السَّاقط منه الصَّحابي أو غيرهُ، فهو والمرسل واحد‏.‏

و لكن أكثر ما يُستعمل في رواية من دون التابعي عن الصَّحابي، كمالك عن ابن عُمر، وقيل‏:‏ هو ما اختلَّ أي‏:‏ سقط منه رجل قبل التابعي هكذا عبَّر ابن الصَّلاح تبعًا للحاكم، والصَّواب‏:‏ قبل الصَّحابي محذوفًا كان الرَّجل أو مُبهمًا كرجُل هذا بناء على ما تقدَّم‏:‏ أنَّ فُلانا عن رَجُل، يُسمَّى مُنْقطعًا وتقدَّم أنَّ الأكثرين على خِلافه، ثمَّ إنَّ هذا القول هو المشهور، بشرط أن يَكُون السَّاقط واحدا فقط، أو اثنين، لا على التوالي كَمَا جزمَ به العِرَاقي وشيخ الإسْلام‏.‏

وقيلَ‏:‏ هو ما رُوي عن تَابعي أو من دُونه، قولاً له أو فِعْلاً، وهذا غريبٌ ضعيفٌ والمعروف أنَّ ذلكَ مَقْطُوعٌ لا مُنقطعٌ كما تقدَّم‏.‏

ثمَّ إنَّ الانقطاع قد يَكُون ظاهرًا، وقد يخفَى فلا يُدْركُه إلاَّ أهل المعرفة، وقد يُعرف بِمَجيئه من وجه آخر بزيادة رَجُل أو أكْثر‏.‏

فائدة‏:‏

ذكر الرَّشيد العَطَّار‏:‏ أنَّ في «صحيح» مُسلم بِضْعة عشر حديثًا في إسنادها انقطاع‏.‏

وأُجيبُ عنها بتبين اتِّصالها، إمَّا من وجْهٍ آخرَ عِنْدهُ، أو من ذلك الوجه عند غيره‏.‏

وهي‏:‏ حديث حُميد الطَّويل، عن أبي رَافع، عن أبي هُرَيرة‏:‏ أنَّه لَقِيَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ طُرقِ المَدِينة‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

صوابه‏:‏ حُميد، عن بَكْر المُزَني، عن أبي رَافع، كَمَا أخرجهُ الخَمْسة وأحمد وابن أبي شَيْبة في «مُسْندَيهما»‏.‏

وحديث السَّائب بن يزيد، عن عبد الله بن السَّعدي، عن عُمر في العَطَاء‏.‏

صوابه‏:‏ السَّائب، عن حُويطب بن عبد العُزَّى، كذا ذكره الحُفَّاظ‏.‏

قال النَّسائي‏:‏ لم يَسْمعهُ السَّائب من ابن السَّعدي، إنَّما رواهُ عن حُويطب، عنهُ، كمَا أخرجهُ البُخَاري والنَّسائي‏.‏

وحديث يحيى بن يَعْلى بن الحارث المُحَاربي، عن غَيْلان، عن عَلْقمة، في قِصَّة ماعز‏.‏

صوابه‏:‏ يحيى بن يَعْلَى، عن أبيه، عن غَيْلان، كذا أخرجه النَّسائي وأبو داود‏.‏

وحديث عبد الكريم بن الحارث، عن المُسْتورد بن شَدَّاد مرفُوعًا‏:‏ «تَقُوم السَّاعة والرُّومُ أكثَرُ النَّاس»‏.‏

قال الرَّشيد‏:‏ عبد الكريم لم يُدْرك المُسْتورد ولا أبُوه الحارث لم يُدْركه، كما قال الدَّارقُطْني‏.‏

قال‏:‏ وإنَّما أورده هكذا في الشَّواهد، وإلاَّ فقد وصلهُ من وجهٍ آخر عن اللَّيث عن مُوسى بن عُلَي، عن أبيه عن المُسْتورد‏.‏

وحديث عُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، عن أبي عَمْرو بن حفص في الطَّلاق‏.‏

قال‏:‏ في سَمَاع عُبيد الله من أبي عَمْرو نظر، وقد وصلهُ من جهة أُخرى عن الشَّعبي وأبي سَلَمة عن فاطمة‏.‏

وحديث منصُور بن المُعْتمر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبَّاس في الَّذي وقصتهُ ناقته‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ إنَّما سَمعهُ منصور من الحكم بن عُتيبة، عن سعيد، كَمَا أخرجه البُخَاري وأبو داود والنَّسائي، وهو الصَّواب‏.‏

ووصلهُ مُسْلم، من طريق جعفر بن أبي وَحْشية وعمرو بن دينار، عن سعيد‏.‏

وحديث مَكْحُول، عن شرحبيل بن السِّمط، عن سَلْمان‏:‏ «رِبَاطُ يَوْمٍ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

في سَمَاع مَكْحُول منه نظر، فإنَّه معدودٌ في الصَّحابة المُتقدِّمين الوفاة، والأصح‏:‏ أنَّ مكحولا إنَّما سمع أنسًا وأبا مُرَّة وواثلة وأم الدَّرداء‏.‏

وحديث أيُّوب، عن عائشة‏:‏ «إنَّ الله أرْسَلني مُبلِّغًا، ولم يُرْسلني مُتعنتًا»‏.‏

قال‏:‏ فإنَّ أيُّوب لم يُدْرك عَائشة، إلاَّ أنَّهُ أوردَ ذلك زيادة في آخر حديث مسند، ولم ير اختصارها، وله عادة بذلك في عِدَّة أحاديث، وهي مُتَّصلة في حديث التخيير من رِوَاية أبي الزُّبير عن جابر‏.‏

وحديث أبي سلاَّم الحبشي، عن حذيفة‏:‏ إنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاء الله بخيرٍ‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ أبو سلاَّم لم يَسْمع من حذيفة ولا نُظَرائه الَّذين نزلُوا العِرَاق‏.‏

وهو مُتَّصل في كِتَابه من وجهٍ آخر عن حُذَيفة‏.‏

وحديث مَطَر، عن زَهْدم، عن أبي مُوسَى في الدَّجَاج‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ لم يَسْمع مطر من زَهْدم، إنَّما رواهُ عن القاسم بن عاصم عنهُ‏.‏

وقد وصلَهُ مُسلم من طُرق أُخرى عن زَهْدم‏.‏

وحديث قَتَادة، عن سِنَان بن سَلَمة، عن ابن عبَّاس في قِصَّة البُدْن‏.‏

قال ابن معين ويحيى بن سعيد‏:‏ قَتَادة لم يَسْمع هذا من سِنَان‏.‏ إلاَّ أنَّه أخرجهُ في الشَّواهد، وقد وصَلهُ قبل ذلك من طريق أبي التَّياح، عن موسى بن سَلمة، عن ابن عبَّاس‏.‏

وحديث عِرَاك بن مالك، عن عائشة‏:‏ جاءتني مِسْكينة تحمل ابنتين‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال أحمد‏:‏ عِرَاك عن عائشة مُرْسل‏.‏

وقال مُوسى بن هارون‏:‏ لا نعلم له سَماعًا منها، وإنَّما يروي عن عُروة، عن عائشة‏.‏

وقال الرَّشيد‏:‏ لا يَبْعُد سّماعهُ منها، وهُمَا في عَصْرٍ واحدٍ، وبلدٍ واحدٍ، ومَذْهب مسلم أنَّ هذا مَحْمولٌ على السَّماع حتَّى يتبين خِلاَفهُ‏.‏

وحديث يزيد بن أبي حبيب، عن محمَّد بن عَمرو بن عَطَاء قال‏:‏ سَمَّيتُ ابنتي برة‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

سقطَ بين يزيد ومُحمَّد، محمَّد بن إسحاق، كذا رواهُ المِصْريون عن اللَّيث، وأخرجه هكذا أبو داود، إلاَّ أنَّ مُسْلمًا وصلهُ من طريق الوليد بن كثير، عن مُحمَّد بن عَمرو بن عَطَاء‏.‏

النَّوع الحادي عشر‏:‏ المُعْضَل

هُو بفتح الضَّاد، يَقُولون أعْضَلهُ، فهو مُعْضلٌ، وهُو ما سَقطَ من إسْنَاده اثْنَان فأكْثر، ويُسمَّى مُنْقطعًا، ويُسَمَّى مُرْسلاً عند الفًقهاء وغيرهم كما تقدَّم، وقيل‏:‏ إنَّ قول الرَّاوي، كَقُول مالك‏:‏ بلغني عن أبي هُرَيرةَ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «للمَمْلُوك طعامهُ وكِسْوتهُ‏.‏‏.‏‏.‏» يُسمَّى مُعْضلاً عند أصْحَاب الحديث‏.‏

النَّوع الحادي عشر‏:‏ المُعضل‏.‏

هو بفتح الضَّاد وأهل الحديث يقولون أعْضَله فهو معضل‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهو اصْطلاح مُشْكل المأخذ من حيث اللغة- أي‏:‏ لأنَّ مفعلاً بفتح العين، لا يكون إلاَّ من ثلاثي لازم، عدى بالهمزة، وهذا لازم معها – قال‏:‏ وبحثتُ فوجدت له قولهم‏:‏ أمر عضيل، أي مُستغلق شديد، وفعيل بمعنى فاعل، يدل على الثلاثي، فعلى هذا يَكُون لنا عضل قاصرًا، وأعضل مُتعديًا كما قالوا‏:‏ ظَلَّم الليل وأظْلم‏.‏

وهو ما سَقطَ من إسناده اثنان فأكثر بشرط التَّوالي، أمَّا إذا لم يتوال فهو منقطع من موضعين‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ ولم أجد في كلامهم إطلاق المُعضل عليه‏.‏

ويُسمَّى المُعْضل مُنقطعًا أيضًا ويُسمَّى مُرسلاً عند الفُقهاء وغيرهم، كما تقدَّم في نَوْع المُرْسل‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّ قول الرَّاوي‏:‏ بَلَغني، كقول مالك في «الموطأ» بلغني عن أبي هُرَيرة أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «للمَمْلُوك طَعَامه وكِسْوته بالمَعْرُوف، ولا يُكلف من العَمَلِ إلاَّ ما يُطِيق»‏.‏

يُسَمَّى مُعضلاً عند أصْحَاب الحديث نقلهُ ابن الصَّلاح عن الحافظ أبي نَصْر السِّجْزي‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وقد استشكل لجواز أن يَكُون السَّاقط واحدًا، فقد سمع مالك من جَمَاعة من أصحاب أبي هُريرة، كسعيد المَقْبُري، ونُعَيم المُجْمر، ومُحمَّد بن المُنْكدر‏.‏

والجَوَاب‏:‏ أنَّ مالكًا وصلهُ خارج «الموطأ» عن محمَّد بن عَجْلان، عن أبيه، عن أبي هُرَيرة، فعرفنا بذلكَ سُقُوط اثنين منه‏.‏

قلتُ‏:‏ بَلْ ذكرَ النَّسائي في «التمييز» أنَّ مُحمَّد بن عَجْلان لم يسمعهُ من أبيه، بل رواه عن بُكير، عن عَجْلان‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وقولُ المُصنِّفين‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، من قَبِيل المُعْضل‏.‏

فائدة‏:‏

صنَّف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في «الموطأ» من المُرسل والمُنقطع والمُعْضل قال‏:‏ وجميع ما فيه من قوله‏:‏ بلغني، ومن قوله‏:‏ عن الثِّقة عنده، مِمَّا لم يُسْنده‏:‏ أحد وسُتون حديثًا، كلَّها مُسْندة من غير طريق مالك، إلاَّ أربعة لا تعرف‏:‏

أحدها‏:‏ «إنِّي لا أنْسَى، ولكن أنْسَى لأسُنَّ»‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي أعْمَار النَّاس قبله، أو مَا شَاء الله تعالى من ذلك، فكَأنَّه تَقَاصر أعْمَار أمَّتهِ‏.‏

والثالث‏:‏ قول معاذ‏:‏ آخر ما أوصَاني به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضعتُ رجلي في الغَرْز أن قال‏:‏ «أحْسِن خُلقكَ للنَّاس»‏.‏

والرَّابع‏:‏ «إذَا أنْشَأت بَحْرية، ثمَّ تَشَاءمت، فتلكَ عَيْنٌ غديقة»‏.‏

وإذا رَوَى تَابعُ التَّابعي، عن تَابعي حَدِيثًا وقفَهُ عليه، وهو عند ذلكَ التَّابعي مرفوعٌ مُتَّصل، فهو مُعْضل‏.‏

وإذا رَوَى تابعُ التَّابعي عن تَابعي حديثا وقفهُ عليه، وهو عند ذلكَ التَّابعي مرفوعٌ مُتَّصل، فهو مُعْضل‏.‏

نقله ابن الصَّلاح عن الحاكم، ومثَّلهُ بما رُوي عن الأعمش، عن الشَّعبي قال‏:‏ يُقَالُ للرَّجُل يوم القيامة‏:‏ «عَمِلتَ كذا وكذا‏؟‏ فيقُول‏:‏ ما عملتهُ فيُخْتم على فيه‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

أعضلهُ الأعْمش، ووصلهُ فُضَيل بن عَمرو عن الشَّعبي، عن أنس قال‏:‏ كُنَّا عندَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فذكرَ الحديث‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهذا جيِّدٌ حسن، لأنَّ هذا الانْقطاع بواحد مضمُومًا إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين‏:‏ الصَّحابي ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى‏.‏

قال ابن جماعة‏:‏ وفيه نظر، أي لأنَّ مثل ذلك لا يُقَال من قَبِيل الرَّأي، فحُكْمه حُكم المُرْسل، وذلكَ ظاهرٌ لا شكَّ فيه‏.‏

ثمَّ رأيتُ عن شيخ الإسْلام أنَّ لِمَا ذكرهُ ابن الصَّلاح شَرْطين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يَكُون مِمَّا يَجُوز نسبتهُ إلى غير النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فمُرسل‏.‏

الثَّاني‏:‏ أن يُروى مُسْندًا من طريق ذلك الذي وقِفَ عليه، فإن لم يكن فموقوفٌ لا مُعْضل، لاحتمال أنَّه قالهُ من عنده، فلم يتحقَّق شرط التَّسمية من سُقُوط اثنين‏.‏

فائدتان‏:‏

الأولى‏:‏ قال شيخنا الإمامُ الشَّمني‏:‏ خصَّ التبريزي المُنقطع والمُعضل بمَا ليسَ في أوَّل الإسناد، وأمَّا ما كان في أوَّله، فمعلَّق، وكلام ابن الصَّلاح أعم‏.‏

الثَّانية‏:‏ من مَظَانِّ المُعضل، والمُنْقطع، والمُرْسل كتاب «السنن» لسعيد بن منصور، ومؤلفات ابن أبي الدُّنيا‏.‏

فروعٌ‏:‏ أحدُها‏:‏ الإسْنَادِ المُعَنعن، وهو فُلانٌ، عن فُلان، قيل‏:‏ إنَّه مُرْسل، والصَّحيح الَّذي عليه العملُ وقالهُ الجماهيرُ من أصْحَاب الحديث والفِقْهِ والأصُول‏:‏ أنَّه مُتَّصل‏.‏

فُرُوعٌ‏:‏ أحدُها‏:‏ الإسْنَاد المُعَنعن، وهو قول الرَّاوي فُلان عن فُلان بلفظ‏:‏ عن، من غير بيان للتحديث، والإخبار، والسَّماع‏.‏

قيل‏:‏ إنَّه مُرْسل حتَّى يتبيَّن اتِّصَاله‏.‏

والصَّحيح الَّذي عليه العمل، وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول‏:‏ أنَّه مُتصل‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ولذلكَ أودعهُ المُشْترطون للصَّحيح في تَصَانيفهم، وادَّعى أبو عَمْرو الدَّاني إجْمَاع أهل النَّقل عليه، وكان ابن عبد البرِّ يَدَّعي إجماع أئمة الحديث عليه‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ بل صرَّح بادعائه في مقدمة «التمهيد»‏.‏

بِشَرْطِ أن لا يَكُون المُعَنْعِن مُدَلَّسًا، وبِشَرطِ إمْكَان لِقَاء بعضهم بعضًا، وفي اشْتراط ثُبُوت اللِّقَاء، وطُول الصُّحْبة، ومعرفته بالرِّواية عنه خلافٌ، منهم من لم يَشْترط شيئًا من ذلك، وهو مَذْهب مُسْلم بن الحجَّاج، وادَّعى الإجْمَاع فيهِ‏.‏

بِشَرط أن لا يَكُون المُعَنعِن بكسر العين مُدلسًا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضًا أي لقاء المُعنعن من روى عنه بلفظ‏:‏ عن، فحينئذ يُحكم بالاتِّصال، إلاَّ أن يتبين خلاف ذلك‏.‏

وفي اشتراط ثُبُوت اللِّقاء وعدم الاكْتِفَاء بإمْكَانه وطُول الصُّحبة وعدم الاكتفاء بِثُبوت اللِّقاء ومعرفته بالرِّوَاية عنه وعدم الاكتفاء بالصُّحبة خلاف، منهم من لم يَشْترط شيئًا من ذلك واكتفى بإمْكَان اللِّقاء وعبَّر عنه بالمُعَاصرة وهو مذهب مسلم بن الحجَّاج، وادَّعى الإجماع فيه في خطبة «صحيحهُ» وقال‏:‏ إنَّ اشتراط ثُبوت اللِّقاء قولٌ مُخْترع لم يُسبق قائله إليه، وأنَّ القول الشائع المُتَّفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديمًا وحديثًا أنَّه يكفي أن يثبت كونهمَا في عَصْرٍ واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنَّهُما اجتمعَا أو تَشَافها‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وفيما قالهُ مُسْلم نظر‏.‏ قال‏:‏ ولا أرى هذا الحُكْم يستمر بعد المُتقدِّمين فيما وجد من المُصنفين في تصانيفهم مِمَّا ذكرُوه عن مشايخهم، قائلين فيه‏:‏ ذكر فُلان، أو قال فُلان، أي فليس له حكم الاتِّصَال، ما لم يكن له من شيخه إجَازة‏.‏

ومنهُم‏:‏ من شرطَ اللِّقاء وحدهُ، وهو قولُ البُخَاري وابن المَدِيني والمُحقِّقين، ومنهم من شرطَ طُول الصُّحبة، ومنهم من شَرَطَ معرفتهُ بالرِّواية عنهُ‏.‏

ومنهم من شرطَ اللِّقاء وحدهُ، وهو قول البُخَاري وابن المَدِيني والمُحقِّقين من أئمة هذا العلم‏.‏

قيل‏:‏ إلاَّ أنَّ البُخَاري لا يشترط ذلك في أصل الصحَّة، بل التزمه في «جامعه» وابن المَدِيني يشترطه فيها‏.‏

ونصَّ على ذلكَ الشَّافعي في «الرِّسالة»‏.‏

ومنهم من شَرَطَ طُول الصُّحبة بينهما، ولم يكتف بِثُبوت اللِّقَاء وهو أبو المُظفَّر السَّمعاني‏.‏

ومنهم من شَرَطَ معرفته بالرِّواية عنه وهو أبو عَمرو الدَّاني‏.‏

واشترطَ أبو الحسن القَابسي أن يُدْركه إدْرَاكًا بَيِّنًا، حكاهُ ابن الصَّلاح‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهذا داخلٌ فيما تقدَّم من الشُّروط‏.‏

فلذلكَ أسقطهُ المُصنِّف‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ من حَكَم بالانْقطاع مُطلقًا شدَّد، ويَلِيه من شَرَطَ طُول الصُّحبة، ومن اكتفَى بالمُعَاصرة سهَّل، والوَسَط الَّذي ليسَ بعده إلاَّ التعَنُّت مذهب البُخَاري ومن وافقهُ، وما أوردهُ مسلم عليهم من لزوم ردِّ المُعنعن دائمًا، لاحتمال عدم السَّماع ليسَ بواردٍ، لأنَّ المَسْألة مفروضة في غير المدلس، ومن عنعن ما لم يسمعهُ فهو مُدلِّس‏.‏

قال‏:‏ وقد وجدتُ في بعضِ الأخبار ورُود‏:‏ عن، فيمَا لم يكن سماعه من الشَّيخ، وإن كان الرَّاوي سمعَ منهُ الكثير، كما رواه أبو إسحاق السَّبيعي، عن عبد الله بن خبَّاب بن الأرَّت‏:‏ أنهَّ خرجَ عليه الحَرُورية، فقتلُوه حتَّى جَرَى دمهُ في النَّهر، فهذا لا يُمكن أن يَكُون أبو إسحاق سمعهُ من ابن خبَّاب، كمَا هو ظاهر العِبَارة، لأنَّه هو المقتُول‏.‏

قلتُ‏:‏ السَّماع إنَّما يَكُون مُعتبرا في القَوْلِ، وأمَّا الفِعْل فالمُعْتبر فيه المُشَاهدة، وهذا واضحٌ‏.‏

وكَثُرَ في هذه الأعْصَار اسْتعمالُ‏:‏ عن، في الإجَازة، فإذا قال أحدُهم‏:‏ قَرَأتُ على فُلان عن فُلان، فمُراده أنَّه رواهُ عنه بالإجَازة‏.‏

الثَّاني‏:‏ إذا قال‏:‏ حدَّثنا الزُّهْري، أنَّ ابن المُسيب حدَّث بكذا، أو قال‏:‏ قال ابن المُسيب كذا، أو فعلَ كذا، أو كان ابن المُسيب يفعل، وشبهُ ذلك، فقال أحمد بن حنبل وجماعة‏:‏ لا تَلْتحق أنَّ، وشبهُهَا بعن، بل يَكُون مُنقطعًا حتَّى يتبيَّن السَّماع، وقال الجُمهُور‏:‏ أنَّ، كَعَن، ومُطْلقه مَحْمُولٌ على السَّماع بالشَّرط المُتقدِّم‏.‏

وكَثُر في هذه الأعْصَار اسْتَعمالُ‏:‏ عن، في الإجَازة، فإذا قال أحدُهم مثلاً‏:‏ قرأتُ على فُلان عن فُلان، فمُراده أنَّه رواهُ عنه بالإجَازة وذلكَ لا يُخْرجه عن الاتِّصال‏.‏

الثَّاني‏:‏ إذا قال الرَّاوي كمالك مثلاً حدَّثنا الزُّهْري‏:‏ أنَّ ابن المُسيب حدَّث بكذا، أو قال الزُّهْري‏:‏ قال ابن المُسيب كذا، أو فعل كذا، أو قال كان ابن المُسيب يفعل وشبهُ ذلك، فقال أحمد بن حنبل وجماعة منهم فيما حَكَاهُ ابن عبد البر عن البَرْديجي‏:‏ لا تَلْتحق‏:‏ أنَّ، وشبهُها بعن في الاتِّصال بل يكُون مُنقطعًا حتَّى يتبين السَّماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أُخْرَى‏.‏

وقال الجُمهُور فيما حَكاهُ عنهم ابن عبد البر منهم مالك‏:‏ أنَّ، كَعَنْ في الاتِّصال ومُطْلقهُ مَحْمولٌ على السَّماع بالشَّرط المُتقدِّم من اللِّقاء والبَرَاءة من التَّدْليس‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ ولا اعْتبَار بالحروف والألفاظ، وإنَّما هو اللقاء والمُجَالسة والسَّماع والمُشَاهدة‏.‏

قال‏:‏ ولا معنَى لاشْتراط تبين السَّماع لإجْمَاعهم على أنَّ الإسْنَاد المُتَّصل بالصَّحابي سواء أتَى فيه‏:‏ بعن، أو بأن، أو بقال، أو بسمعتُ، فكله مُتَّصل‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ ولقائل أن يُفَرِّق بأنَّ للصَّحابي مزية، حيث يُعمل بإرْسَاله، بخلاف غيره‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ووجدتُ مثل ما حُكِي عن البَرْديجي للحافظ يعقوب بن شيبة في «مُسْنده»، فإنَّه ذكرَ ما رواه أبو الزُّبير، عن مُحمَّد بن الحنفية، عن عمَّار قال‏:‏ أتيتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السَّلام، وجعلهُ مُسْندًا موصُولاً‏.‏

وذكر رِوَاية قيس بن سعد لذلكَ، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن الحنفية‏:‏ أنَّ عمَّارًا مرَّ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي، فجعلهُ مُرْسلاً من حيث كونه قال‏:‏ أنَّ عمَّارًا فعل، ولم يقل‏:‏ عن عمَّار‏.‏ انتهى‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ ولم يقع على مقصُود يعقوب، وبيان ذلك‏:‏ أنَّ ما فعله يعقوب هو صوابٌ من العمل، وهو الَّذي عليه عمل النَّاس، وهو لم يجعلهُ مُرْسلاً من حيث لفظ‏:‏ أنَّ، بل من حيث أنَّه لم يُسْند حِكَاية القِصَّة إلى عمَّار، وإلاَّ فلو قال‏:‏ أنَّ عمَّارًا قال‏:‏ مررتُ، لما جعله مُرسلا، فلمَّا أتى بلفظ‏:‏ أنَّ عمَّارا مرَّ، كان محمَّد هو الحاكي لقصةٍ لم يُدركها، لأنَّه لم يدرك مُرُور عمَّار بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، فكان نقله لذلك مُرسلاً‏.‏

قال‏:‏ والقاعدة‏:‏ أنَّ الرَّاوي إذا روى حديثًا في قِصَّةٍ، أو وَاقعة، فإن كانَ أدركَ ما رواهُ، بأن حَكَى قِصَّةً وقعت بينَ النَّبي صلى الله عليه وسلم وبينَ بعض الصَّحابة، والرَّاوي لذلك صحابي أدركَ تلكَ الواقعة، فهي مَحْكومٌ لها بالاتِّصَال وإن لم يُعلم أنَّه شاهدها، وإن لم يُدركَ تلك الواقعة، فهو مرسل صحابي، وإن كان الرَّاوي تَابعيًا فهو منقطع، وإن روى التَّابعي عن الصَّحابي قِصَّة أدركَ وقُوعها فمُتَّصل، وكذا إن لم يدرك وقوعها، ولكن أسندها له، وإلاَّ فمُنقطعه‏.‏

قال‏:‏ وقد حكى اتِّفاق أهل التمييز من أهل الحديث على ذلك ابن المَوَاق‏.‏

قال‏:‏ وما حَكَاهُ ابن الصَّلاح قبلُ عن أحمد بن حنبل، من أنَّ‏:‏ عن، وأن، ليسا سواء‏.‏ مُنزل أيضًا على هذه القاعدة، فإنَّ الخطيب رواه في «الكفاية» بسنده إلى أبي داود قال‏:‏ سمعتُ أحمد قيل له‏:‏ إنَّ رَجُلاً قال‏:‏ قال عروة‏:‏ إنَّ عائشة قالت‏:‏ يا رَسُول الله، وعن عروة عن عائشة سواء‏؟‏ قال‏:‏ كيف هذا سواء، ليس هذا بسواء‏.‏

فإنَّما فرَّق أحمد بين اللَّفظين، لأنَّ عُروة في اللَّفظ الأوَّل لم يُسْند ذلك إلى عائشة، ولا أدركَ القِصَّة فكانت مُرْسلة، وأمَّا اللَّفظ الثَّاني، فأسند ذلك إليها بالعنعنة، فكانت متصلة‏.‏ انتهى‏.‏

تنبيه‏:‏

كَثُر اسْتَعمال‏:‏ أنَّ، أيضًا في هذه الأعصار في الإجَازة وهذا وما تقدَّم في‏:‏ عن، في المَشَارقة، أمَّا المغاربة فيستعملونها في السَّماع والإجَازة معًا، وهذان الفرعان حقهما أن يُفردا بنوع يُسمَّى المُعَنْعن، كما صنعَ ابن جماعة وغيره‏.‏

الثَّالث‏:‏ التَّعليق الَّذي يذكُرهُ الحُمَيديُّ وغيرهُ في أحاديث من كتاب البُخَاري، وسَبقَهُم باستعماله الدَّارقُطْني، صورتهُ أن يحذف من أوَّل الإسناد واحدٌ فأكْثَر، وكأنَّه مأخوذٌ من تعليق الجِدَار أو الطَّلاق لقطع الاتِّصال، واستعملهُ بعضهم في حذفِ كلِّ الإسْنَاد، كقوله‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال ابن عبَّاس، أو عَطَاء، أو غيره كذا، وهذا التَّعليق له حُكْم الصَّحيح كما تقدَّم في نوع الصَّحيح‏.‏

الثَّالث‏:‏ التعليق الَّذي يذكرهُ الحُميدي وغيره من المَغَاربة في أحاديث من كِتَاب البُخَاري، وسبقهم باسْتعماله الدَّارقُطْني، صُورته أن يحذف من أوَّل الإسناد واحدٌ فأكثر على التوالي بصيغة الجزم، ويُعزى الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته، وبينه وبين المُعضل عمومٌ وخُصُوص من وجه، فيُجَامعه في حذف اثنين فصاعدًا، ويُفَارقه في حذف واحد، وفي اخْتِصاصه بأوَّل السَّند‏.‏

وكأنَّه من تعليق الجِدَار أو الطلاق لقطع الاتِّصال فيهما‏.‏

واسْتعملهُ بعضهم في حَذْفِ كُلِّ الإسْنَاد، كقوله قال‏:‏ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال ابن عبَّاس، أو عطاء أو غيره كذا وإن لم يذكره أصحاب الأطراف، لأنَّ موضُوع كُتبهم بيان ما في الأسَانيد من اختلاف أو غيره‏.‏

وهذا التَّعليق له حُكْم الصَّحيح إذا وقعَ في كِتَاب التزمت صحَّته كَمَا تقدَّم في المَسْألة الرَّابعة من نوع الصَّحيح‏.‏

ولَمْ يَسْتعملُوا التَّعليق في غَيْر صِيغة الجَزْمِ، كَيُروي عن فُلان كَذَا، أو يُقَال عنهُ، ويُذْكر، ويُحْكَى، وشبهها، بل خَصُّوا به صِيغة الجَزْم، كَقَال، وفَعَلَ، وأمرَ، ونَهَى، وذَكَر، وحَكَى، ولم يَسْتعملُوه فيما سَقَطَ وسط إسْنَاده‏.‏

ولم يَسْتعملُوا التَّعليق في غير صيغة الجَزْم، كَيُروى عن فُلان كذا، أو يُقَال عنهُ، ويُذْكر، ويُحْكى وشبهها، بل خَصُّوا به صيغة الجَزْم، كَقَال، وفعلَ، وأمرَ، ونَهَى، وذكرَ، وحَكَى كذا قال ابن الصَّلاح‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وقد اسْتَعملهُ غير واحد من المتأخِّرين في غير المَجْزوم به، منهم الحافظ أبو الحَجَّاج المِزِّي، حيث أوردَ في «الأطراف» ما في البُخَاري من ذلكَ مُعلمًا عليه علامة التَّعليق‏.‏

بل المُصنِّف نفسهُ أوردَ في «الرِّياض» حديث عائشة‏:‏ أُمِرنَا أن نُنزل النَّاس مَنَازلهم، وقال ذكرهُ مسلم في «صحيحه» تعليقًا فقال‏:‏ وذُكر عن عائشة‏.‏

ولم يَسْتعملوهُ فيمَا سقط وسطَ إسْناده لأنَّ له اسمًا يَخُصُّه من الانقطاع والإرْسَال والإعْضَال‏.‏

أمَّا ما عَزَاهُ البُخَاري لبعضِ شُيوخه بِصيغة‏:‏ قال فُلان، وزاد فُلان، ونحو ذلكَ، فليسَ حُكْمه حكم التَّعليق عن شُيوخ شُيوخه ومن فوقهم، بل حُكمه حكم العنعنة من الاتِّصال، بشرط اللقاء والسَّلامة من التدليس، كذا جزم به ابن الصَّلاح‏.‏

قال‏:‏ وبلغني عن بعض المُتأخِّرين من المَغَاربة، أنَّه جعلهُ قِسْمًا من التَّعليق ثانيًا، وأضاف إليه قَوْل البُخَاري‏:‏ وقال لي فُلان، وزادنا فُلان، فوسمَ كل ذلك بالتَّعليق‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وما جَزَمَ به ابن الصَّلاح ههنا هو الصَّواب، وقد خالف ذلك في نَوْع الصَّحيح، فجعلَ من أمْثلة التَّعليق قول البُخَاري‏:‏ قال عفَّان كذا، وقال القَعْنبي كذا، وهُمَا من شُيوخ البُخَاري، والَّذي عليه عمل غير واحد من المتأخِّرين، كابن دقيق العيد والمِزِّي‏:‏ أنَّ لذلك حُكم العنعنة‏.‏

قال ابن الصَّلاح هنا‏:‏ وقد قال أبو جعفر بن حَمْدان النَيْسابوري وهو أعرف بالبُخَاري‏:‏ كل ما قال البُخَاري‏:‏ قال لي فُلان، أو قال لنا، فهو عرض ومُنَاولة‏.‏

وقال غيرهُ‏:‏ المُعتمد في ذلكَ ما حقَّقهُ الخَطِيب من أن‏:‏ قال، ليست كعن، فإن الاصْطلاح فيها مُختلف، فبعضهم يَسْتعملها في السَّماع دائما، كحجَّاج بن محمَّد المِصِّيصي الأعْوَر، وبعضهم بالعَكْس لا يستعملها إلاَّ فيما لم يستعملهُ دائمًا، وبعضهم تارة كذا، وتارة كذا، كالبخاري، فلا يُحكم عليها بحكم مُطَّرد‏.‏

ومثل‏:‏ قال، ذكر، استعملها أبو قُرَّة في «سننه» في السَّماع لم يذكر سِوَاها فيما سَمِعهُ من شُيوخه في جميع الكِتَاب‏.‏

تنبيه‏:‏

فرَّق ابن الصَّلاح والمُصنِّف أحكام المُعلَّق، فذكرا بعضه هنا، وهو حقيقته، وبعضه في نوع الصَّحيح، وهو حكمه، وأحسن من صنيعهما صنيع العراقي، حيث جمعهما في مكان واحد في نوع الصَّحيح، وأحسن من ذلك صنيع ابن جماعة حيث أفرده بنوع مستقل هنا‏.‏

الرَّابع‏:‏ إذا رَوَى بعض الثِّقات الضَّابطينَ الحديث مُرْسلاً، وبعضهم مُتَّصلا، أو بعضهم موقوفًا وبعضهم مرفُوعًا، أو وَصَله هو، أو رفعهُ في وَقْتٍ، أو أرْسلهُ ووقفهُ في وقتٍ، فالصَّحيح أنَّ الحُكْم لمن وصلهُ أو رفعهُ، سَوَاء كان المُخَالف له مثلهُ، أو أكثر، لأنَّ ذلكَ زِيَادة ثقة، وهي مَقْبُولةٌ‏.‏

الرَّابع‏:‏ إذا رَوَى بعض الثِّقات الضَّابطين الحديث مُرْسلاً، وبعضهم مُتَّصلاً، أو بعضهم موقوفًا، وبعضهم مرفوعًا، أو وصله هو، أو رفعه في وقت، أو أرسله ووقفه في وقت آخر‏.‏

فالصَّحيح عند أهل الحديث والفِقْه والأصُول أنَّ الحُكْم لمن وصلهُ أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله في الحفظ والإتقان أو أكثر منه لأنَّ ذلك أي‏:‏ الرفع والوصل زيادة ثقة، وهي مَقْبولة على ما سيأتي‏.‏

وقد سُئل البُخَاري عن حديث‏:‏ «لا نِكَاحَ إلاَّ بولي»، وهو حديث اختُلف فيه على أبي إسْحَاق السَّبيعي‏.‏

فرواهُ شُعبة والثَّوري عنه، عن أبي بُرْدة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مُرْسلا‏.‏

ورواه إسْرائيل بن يونس في آخرين، عن جدِّه أبي إسْحَاق، عن أبي بُرْدة، عن أبي مُوسى مُتَّصلاً‏.‏ فحكم البُخَاري لمن وَصَلهُ، وقال‏:‏ الزِّيادة من الثِّقة مقبُولة، هذا مع أنَّ من أرسلهُ شُعبة وسُفيان، وهُمَا جَبَلان في الحِفْظ والإتْقَان‏.‏

وقيل‏:‏ لم يحكُم البُخَاري بذلكَ لمُجَرَّد الزِّيادة، بل لأنَّ لحُذَّاق المُحدِّثين نَظَرًا آخر، وهو الرُّجوع في ذلك إلى القَرَائن دونَ الحُكْم بحكم مُطَّرد، وإنَّما حكم البُخَاري لهذا الحديث بالوَصْل، لأنَّ الَّذي وصلهُ عن أبي إسْحَاق سبعة، منهم إسرائيل حفيدهُ، وهو أثبت النَّاس في حديثه، لكثرة مُمَارسته له، ولأنَّ شُعبة وسُفيان سمعاهُ في مَجْلس واحد، بدليل رِوَاية الطَّيالسي في «مسنده» قال‏:‏ حدَّثنا شُعبة، قال‏:‏ سمعت سُفيان الثَّوري يقول لأبي إسحاق‏:‏ أحدَّثكَ أبو بُرْدة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فذكرَ الحديث، فرجعا كأنَّهما واحد، فإنَّ شُعبة إنَّما رواهُ بالسَّماع على أبي إسْحاق بقراءة سُفيان وحكم التِّرمذي في «جامعه» بأنَّ رواية الَّذين وصَلوهُ أصح‏.‏

قال‏:‏ لأنَّ سَمَاعهم منهُ في أوقات مُختلفة، وشُعبة وسُفيان سمعاهُ في مَجْلس واحد، وأيضًا، فسُفيان لم يَقُل له‏:‏ ولم يُحدِّثك به أبو بُرْدة إلاَّ مرسلا، وكان سُفيان قال له‏:‏ أسمعتَ الحديث منهُ، فقَصْده إنَّما هو السؤال عن سماعه له، لا كيفية روايته له‏.‏

ومنهُم من قال‏:‏ الحُكْم لمن أرْسَلهُ، أو وقفه، قال الخطيب‏:‏ وهو قول أكثر المُحدِّثين وعند بعضهم الحُكْم للأكثر، وبعضهم للأحْفَظ، وعلى هذا لو أرْسَلهُ، أو وقفهُ الأحفظ، لا يَقْدح الوَصْل والرَّفع في عَدَالة راويه، وقيل‏:‏ يقدح في وصْلهِ ما أرسلهُ الحُفَّاظ‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ الحُكم لمن أرسله، أو وقفه، قال الخطيب‏:‏ وهو قول أكثر المُحدِّثين، وعند بعضهم‏:‏ الحُكم للأكثر، و عن بعضهم الحُكم للأحفظ، وعلى هذا القول لو أرسله، أو وقفه الأحفظ، لا يقدح الوصل والرفع في عدالة راويه ومسنده من الحديث غير الذي أرسله وقيل‏:‏ يقدح في وصله ما أرسله أو رفعه ما وقفه الحُفَّاظ‏.‏

وصحَّح الأصُوليون في تعارض ذلك من واحد في أوقات أنَّ الحُكْم لِمَا وقع منهُ أكثر، فإنْ كان الوَصْل أو الرَّفع أكثر قُدِّم، أو ضدهما، فكذلكَ‏.‏

قلتُ‏:‏ بقي عليهم ما إذا استويَا بأن وقع كل منهما في وقتٍ فقط، أو وقتين فقط‏.‏

فائدة‏:‏

قال المَاوردي‏:‏ لا تَعَارُض بين ما ورد مرفوعًا مرَّة وموقوفًا على الصَّحابي أُخرَى، لأنَّه يَكُون قد رواهُ وأفْتَى به‏.‏

النَّوع الثَّاني عَشَر‏:‏ التَّدليس

وهو قِسْمان‏:‏ الأوَّل‏:‏ تدليس الإسْنَاد، بأنْ يَرْوى عمَّن عاصرهُ ما لم يسمعهُ منهُ، مُوهمًا سَمَاعهُ قائلاً‏:‏ قال فُلان، أو عن فُلان، ونحوه‏.‏

النَّوع الثَّاني عشر‏:‏ التدليس‏.‏

وهو قسمان بل ثلاثة أو أكثر، كما سيأتي‏:‏

الأوَّل‏:‏ تدليس الإسْناد، بأن يروى عَمَّن عاصرهُ زاد ابن الصَّلاح‏:‏ أو لقيهُ ما لم يسمعهُ منه بل سمعهُ من رجل عنه مُوهمًا سماعهُ حيثُ أوردهُ بلفظٍ يُوهم الاتِّصال ولا يَقْتضيه قائلاً‏:‏ قال فُلان، أو عن فُلان، ونحوه وكأنَّ فُلانًا، فإن لم يكن عاصره فليس الرِّواية عنه بذلك تدليسًا على المشهور‏.‏

وقال قومٌ‏:‏ إنَّه تدليس، فحدُّوه بأن يُحدِّث الرَّجل عن الرَّجل بما لم يسمعه منه، بلفظ لا يقتضي تصريحًا بالسَّماع‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وعلى هذا، فما سَلِمَ أحدٌ من التدليس، لا مالك، ولا غيره‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار وأبو الحسن ابن القَطَّان‏:‏ هو أن يروي عمَّن سمع منهُ، ما لم يسمع منه، من غير أن يذكُر أنَّه سمعه منه‏.‏

قال‏:‏ والفرقُ بينهُ وبين الإرْسَالِ أنَّ الإرسال روايته عمَّن لم يسمع منه‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ والقول الأوَّل هو المشهور‏.‏

وقيَّدهُ شيخُ الإسْلام بقسم اللِّقاء، وجعلَ قِسْم المُعَاصرة إرْسالاً خفيًا، ومثل‏:‏ قال، وعن، وأن، ما لو أسقط أداة الرِّواية، وسمَّى الشَّيخ فقط، فيقُول‏:‏ فُلان‏.‏

قال علي بن خَشْرَم‏:‏ كُنَّا عند ابن عُيينة فقال‏:‏ الزُّهْري، فقيل له‏:‏ حدَّثكُم الزُّهْري‏؟‏ فسكتَ، ثمَّ قال‏:‏ الزُّهْري، فقيل له‏:‏ سمعتهُ من الزُّهْري‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولا ممَّن سَمِعهُ من الزُّهْري، حدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزُّهْري‏.‏

لكن سَمَّى شيخ الإسلام هذا تدليس القطع‏.‏

وربَّما لم يُسْقط شيخهُ، وأسْقطَ غيره ضعيفًا، أو صغيرًا، تحسينًا للحديث‏.‏

وربما لم يُسقط شيخه، أو أسقط غيره أي‏:‏ شيخ شيخه، أو أعلى منه، لكونه ضعيفًا وشيخه ثقة أو صغيرًا وأتى فيه بلفظ محتمل عن الثِّقة الثاني تحسينًا للحديث‏.‏

وهذا من زوائد المُصنِّف على ابن الصَّلاح، وهو قسم آخر من التَّدليس يُسمَّى تدليس التسوية، سمَّاه بذلك ابن القطَّان، وهو شر أقْسَامه، لأنَّ الثِّقة الأوَّل قد لا يَكُون معروفًا بالتَّدليس، ويجدهُ الواقف على السَّند كذلك بعد التَّسوية، قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصِّحة، وفيه غرور شديد، ومِمَّن اشتهرَ بفعل ذلك بقية بن الوليد‏.‏

قال ابن أبي حاتم في «العلل»‏:‏ سمعتُ أبي وذكرَ الحديث الَّذي رواهُ إسْحاق بن رَاهُويه، عن بَقية، حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عُمر حديث‏:‏ «لا تحمدُوا إسْلام المَرْء، حتَّى تَعْرفُوا عُقْدة رأيه»‏.‏ فقال أبي‏:‏ هذا الحديث له عِلَّة قلَّ من يفهما، روى هذا الحديث عُبيد الله بن عَمرو، عن إسْحَاق بن أبي فَرْوة، عن نافع، عن ابن عُمر، وعُبيد الله كُنيتهُ أبو وهب، وهو أسدي، فكنَّاه بقية ونسبهُ إلى بني أسد، كي لا يُفطن له، حتَّى إذا ترك إسحاق لا يُهتدى له، قال‏:‏ وكانَ بقية من أفعل النَّاس لهذا‏.‏

ومِمَّن عُرِفَ به أيضًا‏:‏ الوليد بن مسلم‏.‏

قال أبو مُسْهِر‏:‏ كان يُحدِّث بأحَاديث الأوْزَاعي عن الكذَّابين، ثمَّ يُدلسها عنهُم‏.‏

وقال صالح جَزَرة‏:‏ سمعتُ الهيثم بن خَارجة يَقُول‏:‏ قلت للوليد‏:‏ قد أفسدتَ حديث الأوزاعي، قال‏:‏ كيف‏؟‏ قلت‏:‏ تروي عن الأوزاعي، عن نافع، وعن الأوْزَاعي، عن الزُّهْري، وعن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، وغيرك يُدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزُّهْري أبا الهيثم قرَّة، فما يحملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ أُنبِّل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء‏.‏ قلتُ‏:‏ فإذا رَوَى الأوزاعي عن هؤلاء وهم ضُعفاء أحاديث مَنَاكير، فأسقطتهم أنت، وصَيَّرتها من رواية الأوزاعي عن الثِّقات، ضُعِّف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وكان الأعْمش وسُفيان الثَّوري يفعلون مثل هذا‏.‏

قال العَلائي‏:‏ وبالجُمْلة، فهذا النَّوع أفْحَش أنواع التدليس مُطلقًا وشرها‏.‏

وقال العِرَاقيُّ‏:‏ وهو قادح فيمن تعمدَ فِعْله‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ لا شكَّ أنَّه جرح، وإن وُصِفَ به الثَّوري والأعْمش، فلا اعْتذار أنَّهما لا يَفْعلانه إلاَّ في حقِّ من يكون ثقة عندهما، ضعيفاً عند غيرهما‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ ابن القَطَّان إنَّما سَمَّاه تسوية، بدون لَفْظ التَّدليس، فيَقُول‏:‏ سوَّاه فُلان، وهذه تسوية، والقُدماء يسمُّونه تجويدًا، فيقولون‏:‏ جوَّده فُلان، أي ذكر من فيه من الأجواد، وحذف غيرهم‏.‏

قال‏:‏ والتَّحقيق أن يُقَال‏:‏ مَتَى قيلَ‏:‏ تدليس التسوية، فلا بد أن يَكُون كل من الثِّقات الَّذين حذفت بينهم الوَسَائط في ذلك الإسْنَاد، قد اجتمعَ الشَّخص منهم بشيخِ شيخه في ذلكَ الحديث، وإن قيل‏:‏ تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كمَا فعل مالك، فإنَّه لم يقع في التَّدليس أصْلاً، ووقعَ في هذا فإنَّه يروي عن ثور عن ابن عبَّاس، وثور لم يلقه، وإنَّما روى عن عكرمة عنهُ فاسقط عِكْرمة، لأنَّه غير حُجَّة عندهُ، وعلى هذا يُفارق المُنقطع بأن شرط السَّاقط هُنَا أن يَكُون ضَعيفًا، فهو مُنقطع خاص‏.‏

ثمَّ زاد شيخ الإسلام تدليس العطف، ومثَّله بما فعلَ هُشَيم، فيما نقلَ الحاكم والخَطِيب‏:‏ أنَّ أصْحَابه قالُوا له‏:‏ نُريد أن تُحدِّثنا اليوم شيئًا لا يَكُون فيه تدليس، فقال‏:‏ خذوا، ثمَّ أملى عليهم مَجْلسًا يقول في كلِّ حديث منه‏:‏ حدَّثنا فُلان وفلان، ثمَّ يَسُوق السَّند والمتن، فلمَّا فرغ قال‏:‏ هل دلستُ لكم اليوم شيئا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ بلى، كل ما قلت فيه‏:‏ وفلان فإنِّي لم أسمعهُ منه‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ وهذه الأقسام كلها يشملها تدليس الإسْنَاد، فاللائق ما فعله ابن الصَّلاح من تقسيمه قسمين فقط‏.‏

قلتُ‏:‏ ومن أقْسَامه أيضًا‏:‏ ما ذكر محمَّد بن سعد، عن أبي حفص عُمر بن علي المُقدمي، أنَّه كان يُدلِّس تدليسًا شديدًا يقول‏:‏ سمعتُ، وحدَّثنا، ثمَّ يسكت، ثمَّ يقول‏:‏ هِشَام بن عُروة، الأعمش‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ كان يقول‏:‏ حَجَّاج سمعتهُ، يعني حديثا آخر‏.‏

وقال جَمَاعة‏:‏ كان أبو إسحاق يقول‏:‏ ليسَ أبو عُبيدة ذكره، ولكن عبد الرَّحمن بن الأسود عن أبيه، فقوله عبد الرَّحمن تدليس، يُوهم أنَّه سمعه منه‏.‏

وقسَّمهُ الحاكم إلى سِتَّة أقْسَام‏:‏

الأوَّل‏:‏ قومٌ لم يُميِّزُوا بين ما سمعوهُ وما لم يسمعوهُ‏.‏

الثَّاني‏:‏ قومٌ يُدلِّسُون، فإذا وقعَ لهم من ينقر عنهم، ويلح في سماعاتهم ذكروا له، ومثَّلهُ بما حكى ابن خشرم عن ابن عُيينة‏.‏

الثَّالث‏:‏ قومٌ دلَّسوا عن مَجْهولين، لا يُدرى من هُم، ومثَّله بما رُوي عن ابن المَدِيني قال‏:‏ حدثني حُسين الأشْقر، حدَّثنا شُعيب بن عبد الله، عن أبي عبد الله، عن نوف، قال‏:‏ بتُّ عند علي فذكر كلامًا، قال ابن المَدِيني‏:‏ فقلتُ لحسين مِمَّن سمعتَ هذا‏؟‏ فقال‏:‏ حدَّثنيه شُعيب عن أبي عبد الله، عن نوف، فقلتُ لشعيب‏:‏ من حدَّثك بهذا‏؟‏ فقال أبو عبد الله الجَصَّاص، فقلت‏:‏ عمَّن‏؟‏ قال‏:‏ عن حمَّاد القَصَّار، فلقيتُ حمَّادًا فقلتُ له‏:‏ من حدَّثك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ بلغني عن فَرْقد السَّبخي عن نوف‏.‏

فإذا هو قد دلَّس عن ثلاثة، وأبو عبد الله مجهول، وحمَّاد لا يدرى من هو، وبلغه عن فرقد، وفرقد لم يُدرك نوفًا‏.‏

الرَّابع‏:‏ قومٌ دلَّسُوا عن قوم سمعُوا منهم الكثير، وربَّما فاتهم الشَّيء عنهم فيُدلِّسُونه‏.‏

الخامس‏:‏ قومٌ رَوُوا عن شُيوخ لم يروهم، فيَقُولون‏:‏ قال فُلان، فحمل ذلكَ عنهم على السَّماع، وليسَ عندهم سماع‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ وهذه الخَمْسة كلها داخلة تحت تَدْليس الإسْناد، وذكر السَّادس، وهو تدليس الشُّيوخ الآتي‏.‏

الثَّاني‏:‏ تدليس الشَّيوخ، بأن يُسمِّي شيخهُ أو يُكَنيه، أو ينسبهُ، أو يصفهُ بِمَا لا يعرف، أمَّا الأوَّل فمكروهٌ جِدًّا، ذمَّهُ أكثر العُلماء‏.‏

القسم الثَّاني‏:‏ تدليس الشِّيوخ، بأن يُسمِّي شيخه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه، بما لا يعرف‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ ويدخُل أيضًا في هذا القِسْم التَّسوية، بأن يَصِف شيخ شيخهُ بذلك‏.‏

أمَّا القسم الأوَّل فمكروهٌ جدًّا ذمَّه أكثر العلماء‏.‏

وبالغ شُعبة في ذمِّه، فقال‏:‏ لأن أزْنِي، أحب إلي من أن أدُلِّس‏.‏

وقال‏:‏ التدليس أخو الكذب‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهذا منهُ إفْراطٌ، محمولٌ على المُبَالغة في الزَّجْر عنه والتنفير‏.‏

ثمَّ قالَ فريقٌ منهم‏:‏ من عُرِفَ به صار مَجْروحًا مردود الرِّواية وإن بَيَّن السَّماع‏.‏

ثمَّ قال فريقٌ منهم من أهل الحديث والفُقهاء من عُرف به صار مجروحًا مردود الرِّواية مُطلقا وإن بيَّنَ السَّماع‏.‏

وقال جمهور من يقبل المُرْسل‏:‏ يُقبل مُطلقًا، حَكَاهُ الخطيب‏.‏

ونقل المُصنِّف في «شرح المهذب» الاتفاق على رد ما عنعنهُ تبعًا للبيهقي وابن عبد البر، مَحْمولٌ على اتِّفاق من لا يُحتج بالمُرسل‏.‏

لكن حَكَى ابن عبد البر عن أئمة الحديث، أنَّهم قالوا‏:‏ يُقبل تدليس ابن عُيينة، لأنَّه إذا وقف أحال على ابن جُريج ومَعْمر ونُظرائهما‏.‏

ورجَّحهُ ابن حبَّان قال‏:‏ وهذا شيء ليسَ في الدُّنيا إلاَّ لسفيان بن عُيينة، فإنَّه كان يُدلِّس، ولا يُدلِّس إلاَّ عن ثقة مُتقن، ولا يكاد يوجد له خبر دلَّس فيه، إلاَّ وقد بَيَّن سماعهُ عن ثقة، مثل نفسه، ثمَّ مثَّل ذلكَ بمراسيل كِبَار التَّابعين، فإنَّهم لا يرسلون إلاَّ عن صحابي‏.‏

وسبقهُ إلى ذلك أبو بكر البزَّار، وأبو الفتح الأزْدي، وعِبَارة البَزَّار‏:‏ من كان يُدلِّس عن الثِّقات، كان تدليسهُ عند أهل العلم مقبولاً‏.‏

وفي «الدَّلائل» لأبي بكر الصَّيرفي من ظهرَ تدليسه عن غير الثِّقات لم يُقبل خبره حتَّى يَقُول‏:‏ حدَّثني، أو سمعتُ‏.‏

فعلى هذا هو قولٌ ثالث مفصَّل غير التفصيل الآتي‏.‏

والصَّحيحُ التَّفصيل، فمَا رواهُ بلفظٍ مُحتمل لَمْ يُبيِّن فيه السَّماع فَمُرْسل، وما بيَّن فيه، كسمعتُ، وحدَّثنا، وأخبرنا، وشبهها، فمقبولٌ محتَجٌّ به، وفي «الصَّحيحين» وغيرهما من هذا الضَّرب كثيرٌ، كقتادة والسُّفْيَانين، وغيرهم، وهذا الحُكْم جار، فيمن دَلَّس مَرَّة، وما كان في «الصَّحيحين» وشبههما عن المُدَلِّسين بعن، محمولٌ على ثُبوت السَّماع من جهة أُخرى، وأمَّا الثَّاني فكراهته أخفُّ، وسببها تَوْعيرُ طريق معرفتهِ، وتَخْتلف الحال في كَراهتهِ، بِحَسبِ غرضهِ، لِكَون المُغَيَّر اسمهُ ضعيفًا‏.‏

قال المُصنِّف كابن الصَّلاح، وعُزي للأكثرين منهم الشَّافعي وابن المَدِيني وابن مَعِين وآخرون‏:‏ والصَّحيح التفصيل، فما رواهُ بلفظ مُحتمل لم يُبيِّن فيه السَّماع فمرسل لا يقبل وما بيَّن فيه، كسمعتُ، وحدَّثنا، وأخبرنا، وشبهها، فمَقْبول يُحتج به، وفي «الصَّحيحين» وغيرهما من هذا الضَّرب كثير، كقتادة، والسُّفيانين، وغيرهم كعبد الرزاق، والوليد بن مسلم، لأنَّ التدليس ليسَ كذبًا وإنَّما هو ضرب من الإيهام‏.‏

وهذا الحُكم جار كَمَا نصَّ عليه الشَّافعي فيمن دلَّس مَرَّة واحدة، وما كان في «الصَّحيحين» وشبههما من الكُتب الصَّحيحة عن المُدلِّسين بعن، فمَحْمولٌ على ثُبوت السَّماع له من جهة أُخرى وإنَّما اختار صاحب الصَّحيح طريق العنعنة، على طريق التَّصريح بالسَّماع، لكونها على شرطه دون تلك‏.‏

وفصَّل بعضهم تفصيلاً آخر فقال‏:‏ إن كانَ الحامل لهُ على التَّدليس، تغطية الضَّعيف فجرحٌ، لأنَّ ذلك حرام وغش، وإلاَّ فلا‏.‏

وأمَّا القسم الثَّاني فكراهته أخف من الأوَّل وسببها تَوْعير طريق معرفته على السَّامع، كقول أبي بكر بن مُجَاهد أحد أئمة القُرَّاء‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن أبي عبد الله، يُريد أبا بكر بن أبي داود السِّجِسْتَاني، وفيه تضييع للمروي عنه، والمروى أيضًا، لأنَّه قد لا يفطن له فيحكم عليه بالجهالة‏.‏

وتَخْتلف الحالُ في كَرَاهته بحسب غرضه فإن كان لكون المُغيَّر اسمه ضعيفًا فيدلِّسه، حتَّى لا يَظْهر روايته عن الضُّعفاء، فهو شر هذا القسم، والأصح أنَّه ليسَ بجرح‏.‏

وجزمَ ابن الصبَّاغ في العِدَّة بأنَّ من فعلَ ذلك لِكَون شيخهِ غير ثقة عند النَّاس، فغيَّره ليُقبل خبره، يجب أن لا يقبل خبره، وإن كانَ هو يعتقد فيه الثِّقة، فقد غلطَ في ذلكَ لِجَواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو‏.‏

وقال الآمدي‏:‏ إن فعلهُ لضعفه، فجرح، أو لضعف نسبه، أو لاختلافهم في قَبُول رِوَايته فلا‏.‏

وقال ابن السَّمْعَاني‏:‏ إن كان بحيث لو سُئل عنه لم يُبينهُ فجرح، وإلاَّ فلا‏.‏

ومنع بعضهم إطلاق اسم التدليس على هذا، روى البيهقي في «المدخل» عن محمد بن رافع قال‏:‏ قلتُ لأبي عَامر كان الثَّوري يُدلِّس‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قلتُ‏:‏ أليسَ إذا دخل كورة يعلم أنَّ أهلها لا يكتبون حديث رجل، قال‏:‏ حدَّثني رَجُل، وإذا عُرِفَ الرَّجُل بالاسم كَنَّاه، وإذا عُرف بالكُنية سَمَّاهُ‏؟‏ قال‏:‏ هذا تَزْيين، ليسَ بتدليس‏.‏

أو صغيرًا، أو متأخِّرَ الوفَاةِ، أو سمعَ منهُ كثيرًا، فامتنعَ من تِكْرارهِ على صُورة، وتسمَّح الخطيبُ وغيرهُ بهذا‏.‏

أو لكونه صغيرًا في السِّن أو متأخِّر الوفاة حتَّى شَاركهُ من هُو دُونهُ، فالأمر فيه سهل أو سَمِعَ منهُ كثيرًا، فامتنع من تِكْراره على صُورة واحدة إبهامًا لكَثْرة الشِّيوخ، أو تفننا في العِبَارة، فسهل أيضًا و قد تسمَّح الخطيب وغيره من الرواة المُصنِّفين بهذا‏.‏

تنبيه‏:‏

من أقْسَام التَّدليس ما هو عكس هذا، وهو إعْطَاء شخص اسمٌ آخر مشهور تَشْبيهًا، ذكرهُ ابن السُّبكي في «جمع الجَوَامع» قال‏:‏ كقولنا‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، يعني الذَّهبي، تشبيها بالبيهقي حيث يقول ذلك، يعني به الحاكم، وكذا إبهام اللُّقَى والرِّحلة، كحدَّثنا من وراء النَّهر، يُوهم أنَّه جَيْحون، ويُريد نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، وليسَ ذلك بجرح قطعًا، لأنَّ ذلك من المَعَاريض، لا من الكذب‏.‏

قاله الآمدي في «الأحكام» وابن دقيق العيد في «الاقتراح»‏.‏

فائدة‏:‏

قال الحاكم‏:‏ أهل الحجاز، والحرمين، ومِصْر، والعَوَالي، وخُراسان، والجبال وأصبهان، وبلاد فارس، وخوزستان، وما وراء النَّهر، لا نعلم أحدا من أئمتهم دلَّسوا‏.‏

قال‏:‏ وأكثر المُحدِّثين تدليسًا‏:‏ أهل الكُوفة، ونفر يَسيرٌ من أهل البَصْرة‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا أهل بغداد فلم يُذكر عن أحد من أهلها التدليس، إلاَّ أبا بكر محمَّد بن محمَّد بن سُليمان الباغندي الواسطي، فهو أوَّل من أحدثَ التدليس بها، ومن دلَّس من أهلها إنَّما تَبِعهُ في ذلك، وقد افردَ الخطيب كِتَابًا في أسماء المُدلِّسين، ثمَّ ابن عَسَاكر‏.‏

فائدة‏:‏

اسْتُدلَّ على أنَّ التدليس غير حرام، بما أخرجه ابن عدي عن البراء قال‏:‏ لم يَكُن فينا فارسٌ يوم بدر إلاَّ المقداد‏.‏ قال ابن عساكر‏:‏ قولهُ‏:‏ فينا، يعني المُسْلمين، لأنَّ البراء لم يشهد بدرًا‏.‏